هند على الهوني – بنغازي
يتشبث أهالي مدينة درنة الليبية بتفاصيل أحداث إعصار دانيال الذي ضرب البلاد في 11 سبتمبر2023 ولم تكن زيارته سارة لهم، ففي محاولة لرصد قضية من سقط سهوًا من تعويضات الدولة، لم يكن أمامنا بُد من سماع ب عض قصصهم.
تروي لنا سندس ما شعرت به، وهي تتفاعل بملامحها، وحركة يديها، وانتفاضة جسدها “لم يكن بمقدورنا سوى كلمة يارب، حولنا صراخ وعبارات مترامية الأطراف” ي اناس الحواشين طاحن” “ياهو الناس موتت” “اعولتنا أغرقت”.
حاولت النهوض لمعرفة من هم مصدر الاستغاثة، ولكن لم أستطع إخراج رأسي بسبب تطاير النوافذ في الهواء من شدة قوة الرياح، هممنا بالنزول من العمارة السكنية، وما أن وصلنا الطابق الأرضي حتى بدأ الماء يملأ المكان، وقد كان هذا انهيار للسد الأول.
وجدت الناس يسرعون خوفًا من الغرق .. ركضت مع زوجي وابني ونحن نسمع أصوات ارتطام يأتي من نهاية منطقة “البلاد” في حين كنا في أول المنطقة، اختبأنا في إحدى العمارات التي تقع على ارتفاع من جريان الوادي، وفي الصباح ظهرت الجثث في كل مكان.
يستكمل زوجها أيوب القابسي الحديث الذي يلامس جراحه في الموضوع الذي نطرحه بالقول: جئت لبنغازي بحثًا عن مأوى لأسرتي، والحصول على عمل، بعد أن ماتت الحياة في درنة. هنا العمل شاق، من الصباح إلى آخر الليل كنادل في مطعم، ويزداد التعب مع العيش بعيدًا عن الأهل في درنة.
مع إدراك أنه من الصعب الرجوع في ظل عدم وجود أماكن للإيجار، وارتفاع أسعار الموجود منها. الوضع هناك لا يجعل بمقدورك تسديد قيمة الإيجار ومصروفات المعيشة.
يعمل أيوب في محل لصيانة الأجهزة الإلكترونية، ولم يكن مالك للمكان، بل أحد العاملين فيه، وكان عمله يغطي مصاريفه وعائلته، أثناء وقوع الإعصار أنجرف المحل مع السيل مثلما دُمرت العديد من الأماكن، ولم يستطع أيوب البقاء في درنة بلا مأوى أو عمل، جاء نازحًا مع أسرته إلى بنغازي والرغبة تسبقه في أن يتحصل على نفس حرفته في العمل. لا يفكر أيوب أن يستمر حاله على ما هو عليه لأنه بحسب قوله “لن أستطيع ادخار المال لشراء بيت، فقد كنت من شريحة المستأجرين قبل الإعصار، أما بعده فلم أتقاضي أي تعويض حتى على سيارتي التي كانت تشكل مصدر رزق آخر لي”
يمثل السيد “سامح الهنيد” من سكان مدينة درنة بمنطقة وسط البلاد شريحة المستأجرين الذين لم يتقاضوا التعويض، فهو أب لطفلين، ويسكن بالإجار منذ العام 2018م، إلى أن جاء الإعصار، يضيف قائلاً “عشنا هول ما حصل من فيضان في درنة بكل تفاصيله، ولكن الذي (يمسح على قلبي) نجاة زوجتي وأولادي، أما بيت أهلي فقد أصبح رمادًا، ورحل والداي”.
يشرح الهنيد تأزم وضعه بالقول “طالبني صاحب العقار بالمكان الذي لم يعد صالح للسكن أساسًا نتيجة انهيار شبكة الصرف الصحي، وعدم وجود مياه صالحة للاستعمال، وحاليًا أقيم مع أهل زوجتي، مع العلم أننا قمنا بالتسجيل في كل اللجان، ولم نستلم أي مبلغ سواء بدل إيجار، أو جبر ضرر من أي جهة كانت.
كانت فاجعة عندما تصحو على واقع يسدل الستارة لما أمسيت عليه ليلة البارحة
لا تملك الحاجة زهرة بيت خاص يرجع ملكيته لها أو لزوجها المتوفي، فمنذ زمن انتقلت للعيش مع أبنائها مع أهلها في الطابق الأرضي بمنطقة (البلاد) في درنة، وقد خرجت عقب إعصار دانيال، وانهيار السدود متجهه إلى مدينة بنغازي جراء سوء حالتها الصحية، حيث دخلت نزيله مستشفى بنغازي الطبي لمدة 25 يومًا، وتسكن اليوم في سكن مؤقت من هيئة الأوقاف وشؤون الزكاة ببنغازي، تقول الحاجة زهرة: لم نتحصل على مبالغ التعويض سواءً من الجهة التي أعطت 30 ألف دينار، أو الجهة التي أعطت 25 ألف دينار، ولكن سجلنا في منظومة درنة واستلمنا عشرين ألف دينار، وهي منحة ساعدتنا على مواجهة ظروف المعيشة من مأكل وملبس وشراء أغراض منزلية، لكن بالتأكيد ليس لشراء بيت.
هي أيضًا قادتها العاطفة أن تروي ما علق بداخلها من أحداث لن تُنسى لأنها مؤثرة، تقول بصوت متهدج ويدين ترتعشان: خرجنا بملابس البيت لأن كل شيء قد غرق في الماء، وبدأنا نمشي بحذر احترامًا للموتى على الأرض، وتحسبًا لوقوع المزيد من المباني، كذلك الأرض أصبحت طينية تساعد على الانزلاق.
شغلي الشاغل أن يكون لنا بيت نشعر فيه بالأمان ولا نخاف أن يخرجنا منه المالك
بيتي أصابه الدمار وهو بيت ورثه يملكه والد زوجي، لم نتحصل إلى الآن على تعويض للسكن، وإن أقرته إجراءات الدولة لن ينالنا الكثير من أجل شراء بيت خاص بعد اقتسام حق الورثة.
تبدأ الحاجة فاطمة حديثها بتوتر، وأنفاسها تلهث كي تسبق ما ترغب تحقيقه في أرض الواقع: أسرتي تتكون من 7 أولاد بالإضافة لشقيق وشقيقة زوجي، وهم مصابين بمرض عقلي، لا يملك زوجي البالغ من العمر 60 عامًا بيت باسمه، فهو يتقاضى راتب الضمان الاجتماعي، لقد ساء حالنا واتجهنا إلى مدينة بنغازي، قدمت لنا فيها مؤسسة تدعى سلة الخير مبلغ 25 ألف دينار، الذي أعاننا على دفع الإيجار إلى يومنا هذا، وشراء سيارة لنتردد بها على المستشفى في حالات المرض.
حاليًا من تم تدريبهم استطاعوا فتح عياداتهم
الدكتورة في علم النفس “هناء الشكري” المتحصلة على بكالوريوس الطب العام توضح من جانبها دور فرق الدعم النفسي مع المتضررين في مدينة درنة، وتقول هناء: في بداية عملنا لم نستطع استبعاد أي شخص بالمدينة لا يحتاج للدعم النفسي، فكل من يمر عليك تجده حزينًا، أو تملأ عينيه الدموع.
وتستحضر واقعه مؤلمه شاركتنا إياها، إذ تقول: اتذكر لقاءنا بطبيبة تعمل بمستشفى الوحدة في درنة، وهي صغيرة بالعمر، يسكن أهلها بمنطقة وسط البلاد، وقد انجرفت العمارة بساكنيها، هذه الفتاة فقدت الكلام والذاكرة، وبالفعل تم تحويل بشكل مستعجل حالات علاج فقدان الكلام والذاكرة جراء الصدمة إلى مستشفى النفسية ببنغازي مع البرنامج القانوني.
تستكمل الدكتورة قائلًا: ما قام به فريق الدعم النفسي ما بعد 30 يومًا من وقوع الكارثة بدأت تظهر الأعراض كحالات الاكتئاب، والقلق، وعدم النوم، عدم الشعور بالأمان، وحالات الانتحار التي لم نستطع الحديث عنها حتى لا تنتشر فهي تأتي بالعدوى، وهناك من بدأت فيهم الأعراض من أول 20 يوم من وقوع الفاجعة، وكنا نقدم العلاج في شكل مهدئات، وأقراص منومه لا تتجاوز الأسبوع.
كما أن هذه العلاجات اضطررنا صرفها لمن يستحق فقط، محاولين أن يتغلب الإنسان على مصاعبه بنفسه، والاستعانة بالله والقرآن.
حضرت جهات عدة في تقديم تدريبات عن الإسعافات النفسية الأولية، ولكن العبء الأكبر كان على الكوادر الطبية النفسية المحلية لان هناك فرق لم تكن تتحدث العربية، وجدت صعوبة في التواصل مع المريض. كما تم رصد مشاكل صحية له صلة بالجانب النفسي، مثل الحكة، والطفح الجلدي وثعلبة الرأس، أيضًا أمراض السكري والضغط، والقولون العصبي.
شاركنا الأستاذة: ميرفت دومة” عضو لجنة التسكين بقرار من وزارة التعليم العالي لمعرفة ما هي الحلول التي قدمت، والخطط المستقبلية إن وجدت.
تشكلت اللجنة من مختلف مدن ليبيا، وعملت بتطوع منذ بداية الأزمة في محاولة لإيجاد أقامة سكن لأهالي درنة الناجين في مدينة بنغازي والمناطق المجاورة، عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي، نبحث عن الأسر التي خرجت من درنة وتحتاج سكنًا، وكانت الآلية بطريقتين: أماكن جاهزة للتسكين، أو تجميع مبالغ بدل إيجار.
كان الجهد كبيرًا وقد استوفينا كل الطلبات، ولكن حاليًا نشهد أزمة بدأت تظهر، وهي ارتفاع قيمة الإيجارات مع صعوبة الحصول على أماكن شاغرة، ونحن لجنة وإن كانت بقرار من جهة رسمية مارست بعملها بشكل تطوعي، ولا نعلم ما هو الحل من قبل أجهزة الدولة المختصة.
نزوح أكثر من 40 ألف وتضرر أكثر من 5000 منزل
تشير عدة وسائل إعلام ومنظمات إلى أرقام متفرقة عن مبالغ التعويضات، وإحصائيات الأسر المتضررة، ففي الوقت الذي صرح فيه نائب وزير الداخلية بالحكومة الليبية “فرج اقعيم” منح 100 ألف دينار ليبي للسكان الذين دمرت الفيضانات منازلهم بالكامل، في حين يتحصل الذين دمرت منازلهم جزئيًا على 50 ألف دينار، أما من تضرر أثاث منزلة فيحصل على 20 ألف دينار، وقد أعلن رئيس لجنة التعويضات “أبو بكر الزوي” توزيع الدفعة السابعة من صكوك التعويضات إلى نحو 520 عائلة، ليصل عدد من سلمت لهم الصكوك إلى 2005 عائلة، في المقابل كشف المسؤول بلجنة جبر أضرار مدينة درنة “أحمد عبد الله” أن اللجنة أدخلت بيانات 4150 عائلة متضررة، موضحًا أنه من المقرر إدخال بيانات 2000 عائلة.
في السياق نفسه أعلنت الحكومة الليبية إنشاء صندوق لإعادة أعمار مدينة درنة وقد خصص له مجلس النواب 10 مليارات دينار ليبي.
تم إنجاز هذه المادة الصحفية بالتعاون مع صحفيون من أجل حقوق الإنسان JHR والصندوق الكندي للمبادرات المحلية، والمؤسسة الليبية للصحافة الاستقصائية LIFIJ