حقوق معلقة

في ليبيا: رحلة المطلقة للحصول على النفقة

تحقيق: رباب اليفرني

في أروقة المحكمة تتردد أصوات النساء اللاتي أثقلت كاهلهن المسؤولية بعد أن تخلى الآباء عن واجباتهم، وجوه شاحبة وأعين أثقلها الحزن، وكلمات هي مزيج بين الغضب والمرارة.

خلف هذه النظرات تختبئ قصص من المعاناة الطويلة، وهن يقفن بين جدران العدالة بحثًا عن حقوق أبنائهن في حياة كريمة، إحدى الأمهات تجلس بهدوء في قاعة المحكمة، لكنها تحمل بداخلها عاصفة من الألم والوجع قالت بصوت متهدج “لا أريد شيئًا لنفسي، أريد فقط أن يأكل أطفالي، أن يرتدوا ملابس كغيرهم من الأطفال، لماذا يهرب من مسؤوليته؟”

كانت كلماتها تخفي انكسارًا عميقًا، تبدو المحكمة أشبه بساحة معركة نفسية، حيث تمزج الصبر بالألم لمحاولة لاستعادة حقوقها، كل امرأة هنا لا تسعى فقط إلى مطالب مادية، بل تحارب من أجل حياة أطفالها ومستقبلهم، ومن أجل وطن لا يخذل أبناءه، وسط هذه الأروقة، تصبح الأوراق والإجراءات أشبه بقيود تخنق من يسعى لاسترداد حقه.

قيود مقيده

قرب مكتب استلام النفقات، جلست بجانب “حياة” (اسم مستعار)، وهي أم مطلقة تحكي حكاية مليئة بالخذلان، لجأت إلى القضاء للحصول على نفقة عاجلة لطفلتها الصغيرة، لكن رحلتها كانت شاقة، مليئة بالمعوقات، حتى شعرت وكأنها تواجه معركة ليس فقط مع طليقها، بل مع نظام يعيق العدالة بدلًا من تحقيقها.

رغم أن النفقة تُعد إلزامية بعد الطلاق، إلا أن الحصول عليها تحول إلى مغامرة مليئة بالمصاعب والمتاعب، بين مكاتب المحكمة والأوراق المتراكمة، قضت ساعات طويلة، وواجهت تأجيلات متكررة أنهكتها، عندما صدر أمر حبس بحق طليقها، دفع المال خوفًا من السجن، لكن معاناتها لم تنتهِ هنا، في كل مرة تذهب لاستلام النفقة، تواجه نفس الأعذار.

وأضافت حياة “ليس من العدل أن نُرهق بهذه الطريقة، ونحن نطالب بحقوق أطفالنا فقط، لماذا هذه الإجراءات المعقدة؟ ولماذا يترك المستهترون بلا عقاب؟ نحتاج قرارات صارمة تُنفذ بحزم، أطفالنا يستحقون حياة كريمة، ولن نصمت حتى نحصل على العدالة”.

رحلة حياة امتدت لعام ونصف، مليئة بالآلام، منذ أن قررت المطالبة بحقوقها وحقوق طفلتها، وهي تتنقل بين الجلسات المؤجلة دون نتيجة تُذكر، رغم دعم محاميتها، إلا أنها وجدت نفسها عالقة في متاهة الروتين، تُضطر للاستيقاظ مبكرًا لتصل إلى مكتب المحضرين قبل إغلاقه، وإن تأخرت، تلجأ إلى محضر خاص مقابل مبالغ إضافية، رغم أن هذه المسؤولية على المحكمة.

انتظار غير مبرر

في كل جلسة، تنتظر لساعات طويلة، فقط ليُقال لها: “أجلت الجلسة”، القضاة يختلفون في أدائهم، بعضهم يتأخر، وآخرون مشغولون بأمور أخرى، وبين كل هذا، يزداد إرهاقها، الأوراق المطلوبة لا تنتهي، والمستندات تُطلب تصويرها مقابل تكاليف تتحملها من مالها، وعندما تذهب لاستلام النفقة، تواجه الأعذار ذاتها التي تزيد معاناتها، وفي نهاية حديثها، قالت بصوت يفيض بالوجع: “عام ونصف وأنا أسعى لتحصيل حقوق ابنتي، لكن بدل العدالة، عشت إرهاقًا لا ينتهي”، منهكون، والعدالة أصبحت حلمًا.

البحث عن العدالة

تروي أمل حكايتها مع عدم تخيلها بأن تحمل على عاتقها مسؤولية أطفالها، دون أن تجد الدعم من شريك كان من المفترض أن يشاركك هذه المسؤولية، هذه هي حكاية “أمل” (اسم مستعار)، أمٌ أنهكتها الحياة وهي تبحث عن العدالة وسط متاهة من القوانين والإجراءات.

قالت أمل بحزن يشع من عينيها: 

“منذ أكثر من 16 عامًا، عندما انتهى زواجي بالطلاق، كان القرار مشتركًا، حكمت المحكمة بنفقة قدرها (150 دينار ليبي فقط) أي ما يعادل خمسة وعشرون دولارًا، كان مبلغًا بسيطًا بالكاد يكفي لتغطية الاحتياجات الأساسية، لكنه كان شيئًا على الأقل في البداية، كان والد أبنائي يدفع النفقة بانتظام، لكنه توقف لاحقًا، وتراكمت عليه الديون”.

عقبات متتالية

هنا، بدأت معاناة أمل مع الإجراءات القانونية، فقررت المطالبة بحقوقها، لكن الرحلة كانت مليئة بالعقبات، واضطرت إلى تقديم طلب إنذار بالحبس، فكانت الإجراءات مرهقة للغاية، وعندما سُئلت عن مكان إقامته، لم تكن تعرف أين يسكن، كان عليها البحث في كل مكان، دون أن تجد من يدلها عليه، كانت الإجراءات القانونية معقدة لدرجة أنها شعرت وكأنها تواجه معركة خاسرة، فكيف يمكنها أن تتحمل كل هذا العبء وحدها.

رغم الظروف لم تستسلم أمل، تحملت مسؤولية إعالة أطفالها بمفردها، واضطرت إلى مواجهة الحياة بكل تحدياتها، قالت في معرض الحديث عن معاناتها: “اضطررت إلى العمل لتوفير احتياجات أطفالي، والدهم تهرب من مسؤولياته وكأنهم ليسوا جزءًا من حياته، وأضافت: اليوم، وأنا أرى أطفالي يكبرون، لا أملك سوى أن أردد “حسبي الله ونعم الوكيل”.

تختتم أمل حديثها بتساؤلات تحرق القلوب “هل من العدل أن تتحمل الأم وحدها عبء الإعالة؟ أين القانون عندما لا يتمكن حتى من تحديد مكان المطلوب؟ وأين الإنسانية فيمن يتخلى عن أطفاله وكأنهم لم يكونوا يومًا جزءًا من حياته؟

قصتها هي حكاية الكثيرات

قصة أمل ليست حكاية فردية، إنها تمثل واقع كثير من الأمهات اللواتي يُجبرن على مواجهة الحياة بمفردهن، بينما يتهرب الآباء من مسؤولياتهم، هؤلاء الأمهات يدفعن ثمن التهاون في تطبيق القانون، ويعانين بصمت في غياب العدالة، وفي نهاية المطاف، يبقى الأمل معلقًا بعدالة السماء، لأن الأرض لم تنصفهن بعد.

 قضايا النفقة في ليبيا: بين التشريع والإجراءات 

يوضح الحقوقي أكرم النجار أن قضايا النفقة في ليبيا تواجه تحديات كبيرة تشمل الجوانب التشريعية والإجرائية على حد سواء، ما ينعكس سلبًا على حقوق الأمهات المطلقات وأطفالهن.

وأضاف: أن المشكلة الرئيسة تكمن في تدني القيم المالية التي تقضي بها المحاكم كنفقة للأطفال، غالبًا ما تتراوح هذه المبالغ بين 350 إلى 450 دينارًا ليبيًا للطفل الواحد، أي ما يعادل 58 أو75 دولار، وهو مبلغ لا يغطي الحد الأدنى من الاحتياجات الأساسية في ظل التضخم المستمر في البلاد وارتفاع أسعار السلع والخدمات والمستلزمات التي يحتاجها الأبناء.

إثبات دخل الزوج: معضلة قانونية 

كما أشار النجار أن إحدى المشكلات التشريعية تتمثل في اعتماد القانون الحالي على”شهادة المرتب الرسمية” فقط لتحديد دخل الزوج، هذه الشهادة تُستخرج من جهة العمل الرسمية في القطاع العام أو الخاص المنظم ومع ذلك، وأضاف إلى أن العديد من الأزواج لديهم مصادر دخل إضافية غير موثقة، مثل العمل الحر أو التجارة أو الحرف اليدوية.

نظرًا لأن القانون لا يأخذ هذه المصادر في الحسبان، تجد الأمهات المطلقات صعوبة كبيرة في إثبات الدخل الحقيقي للزوج، ما يؤدي إلى إصدار أحكام بنفقات متواضعة لا تعكس الإمكانيات المالية الفعلية.

ويوضح النجار أن التحدي الأكبر يكمن في عدم التزام الأزواج بدفع النفقة بانتظام، هذا الأمر يدفع النساء إلى اللجوء المستمر إلى القضاء، ما يسبب استنزافًا لوقتهن وجهودهن بالإضافة إلى المشاحنات مع الطليق وذويه في غياب الإحساس بالمسؤولية تجاه الأبناء، ورغم أن القانون يتيح للأم تقديم شكوى تُفضي إلى حبس الزوج الممتنع عن الدفع، إلا أن الإجراءات غالبًا ما تكون شكلية ودورية، يحدث في كثير من الحالات أن يتم القبض على الزوج الممتنع ثم الإفراج عنه بمجرد دفع المبالغ المتراكمة، ليعود مجددًا إلى الامتناع، مما يضع المرأة في حلقة مفرغة من الشكاوى والإجراءات.

غياب المنظومة يخلق فوضى وقوانين النفقة بحاجة إلى إصلاح جذري

في لقاء خاص داخل أروقة المحكمة، تحدثت شخصية قضائية – فضلت عدم الكشف عن هويتها – عن التحديات الكبيرة التي تواجهها يوميًا في عملها، كان حديثها مليئًا بالإحباط وهي تصف غياب المنظومة الإلكترونية داخل المحاكم الليبية، وما يترتب على ذلك من مشكلات.

وقالت: أن كل إجراء يُدار يدويًا، وهذا يستهلك وقتًا وجهدًا كبيرين، بالإضافة إلى الملفات تتكدس بشكل كارثي، ما يؤدي إلى تعطيل سير العمل وإرهاق الأطراف المعنية”.

قوانين النفقة: بين التهريب والتهاون

لم يكن غياب المنظومة هو المشكلة الوحيدة التي أشارت إليها الشخصية القضائية، فقد انتقلت إلى قوانين النفقة، معتبرة أن بعضها غير فعّال ومجحف بحق الأمهات والأطفال.

تحدثت تحديدًا عن قانون إنذار الحبس، قائلة: كيف يمكننا إصدار إنذار بالحبس لأب يمتنع عن دفع النفقة، وهو يعلم تمامًا أنه يستطيع التهرب بسهولة؟ بدلاً من إجباره على الوفاء بالتزاماته، تمنحه هذه الخطوة وقتًا إضافيًا للتهرب، يجب أن يكون الحبس فوريًا في مثل هذه الحالات لضمان حقوق الأطفال.

أصبحت صعوبة تحديد مكان إقامة الأب مشكلة مزمنة، تمثل أحد التحديات الأخرى التي تعرقل تنفيذ قوانين النفقة، بحسب الشخصية القضائية، هو صعوبة تحديد مكان إقامة الأب الممتنع عن الدفع، بسبب غياب نظام عنونة واضح في ليبيا، يصبح من المستحيل تقريبًا معرفة مكان السكن إذا قرر الأب الهروب أو تغيير مقر إقامته.

لا توجد قاعدة بيانات موثقة أو بريد معنوي يمكننا الاعتماد عليه، هذا النقص يجعل من السهل على الآباء التهرب، بينما تعاني الأمهات والأطفال الذين ينتظرون حقوقهم.

دعوات لإصلاح جذري 

تسلط هذه التصريحات الضوء على أوجه قصور خطيرة في النظام القضائي الليبي، خاصة فيما يتعلق بقضايا النفقة، والإصلاحات العاجلة باتت ضرورية لضمان تحسين الإجراءات وتوفير بيئة قانونية تضمن حقوق الأسر المتضررة، بعيدًا عن الفوضى والتهرب المستمر.

ويتضح هنا بأن المحاكم بحاجة ماسة إلى منظومة إلكترونية متكاملة، وذلك لتسهيل إدارة الملفات وتسريع الإجراءات، وتشديد قوانين الحبس والإلزام بالدفع الفوري دون إعطاء فرصة للتهرب، بالإضافة إلى إنشاء نظام عنونة موثوق وقاعدة بيانات دقيقة لضمان تتبع الأشخاص وتنفيذ الأحكام.

بقاء الوضع الحالي على ما هو عليه لا يخدم العدالة، بل يزيد من معاناة الأسر، خاصة الأطفال الذين يعتمدون على هذه الحقوق لمواصلة حياتهم بكرامة، الإصلاح هو الحل الوحيد لإنقاذ المنظومة وضمان العدالة للجميع.

تأثير عدم دفع النفقة على الأبناء والأم

في حديث خاص مع الأخصائية النفسية انتصار رمضان الأبيض، الأخصائية ومديرة بمنظمة البيان للمرأة والطفل، سلطت الضوء على قضية عدم دفع النفقة وآثارها العميقة على الأطفال والأمهات في ليبيا.  وأوضحت الأبيض أن الأطفال هم الأكثر تضررًا من مشكلة عدم دفع النفقة، حيث تشكل النفقة مصدرًا أساسيًا لتلبية احتياجاتهم اليومية، مثل الغذاء، التعليم، والرعاية الصحية، وأضافت أن التأثير لا يقتصر على منطقة جغرافية معينة، إذ إن هذه المشكلة منتشرة في مختلف أنحاء ليبيا، مع تفاوت في شدتها بناءً على الوضع الاقتصادي للأسر.

الأستاذة انتصار رمضان الأبيض

وأكدت الأبيض أن الأطفال في الفئات العمرية الصغيرة، خاصة ما بين سنتين إلى سن 12 عامًا، هم الأكثر عرضة للتأثيرات السلبية، نظرًا لاعتمادهم الكامل على والديهم في تلبية احتياجاتهم الأساسية.

وأشارت إلى أن عدم دفع النفقة يترك الأطفال عرضة للحرمان، ما يؤثر على نموهم البدني والنفسي، مستواهم التعليمي، حيث تواجه بعض الأسر صعوبة في تغطية تكاليف التعليم وشراء المستلزمات الدراسية، بالإضافة استقرارهم الأسري، مما يزيد من الضغوط النفسية على الأمهات والأطفال.

وعن أثر المشكلة على الأمهات تحدثت الأبيض عن التوترات النفسية الكبيرة التي تعانيها الأمهات جراء عدم دفع النفقة، حيث يجدن أنفسهن وحيدات في مواجهة تحديات إعالة الأسرة، هذه الضغوط تؤثر سلبًا على صحة الأمهات النفسية، ما ينعكس على استقرار الأسرة ككل.

دعوة لإصلاح قوانين النفقة

وأشارت الأخصائية الليبية في حديثها إلى ضرورة التأكيد على أهمية وجود قوانين صارمة تُلزم الآباء بدفع النفقة في وقتها وأشارت إلى أن حماية الأطفال وضمان استقرار حياتهم، يجب أن تكون من أولويات المجتمع والدولة، واعتبرت أن تأمين حقوق الأطفال ليس رفاهية، بل ضرورة لضمان نشأتهم السليمة ومستقبلهم المشرق.

أصبح من الواضح أن عدم دفع النفقة لا يقتصر على كونه قضية قانونية فحسب، بل هو مشكلة اجتماعية ونفسية عميقة، إذ يؤثر هذا الإهمال سلبًا على مستقبل الأطفال، ويهدد استقرار المجتمع بأكمله، فالأطفال الذين يحرمون من حقوقهم الأساسية نتيجة لعدم دفع النفقة قد يعانون من مشاكل نفسية وتعليمية، مما ينعكس على قدرتهم على بناء حياة مستقرة وإيجابية.

لذلك، فإن معالجة هذا الوضع تتطلب إرادة قوية وقرارات حاسمة من جميع الجهات المعنية، يجب أن تكون هناك تشريعات صارمة وآليات تنفيذ فعّالة لضمان حقوق الأسر، إلى جانب حملات توعوية تسلط الضوء على أهمية الالتزام بالنفقة كمسؤولية أخلاقية واجتماعية، وليست مجرد التزام قانوني، فحماية الأسر وضمان العدالة ليسا مسؤولية فردية فقط، بل هما ركيزة أساسية لاستقرار المجتمعات ونهضتها.

بين نصوص القانون وواقع المحاكم

القوانين التي تُسن لتلبية احتياجات البشر قد تصبح جامدة إذا لم تُواكب الزمن وتغيراته، هذا ما أكده نوري الوحيشي، الذي شغل منصب وكيل نيابة لمدة 9 سنوات، وعمل كمحامٍ خاص لمدة 15 عامًا، حيث قال: أن القوانين أحيانًا تكون انعكاسًا للزمن الذي صدرت فيه، لكنها قد تصبح عبئًا إذا لم تواكب تطورات المجتمع وظروفه المتغيرة، القانون الذي ربما عالج مشكلة عند صدوره قد يحتاج إلى تعديلات مستمرة ليواكب المستقبل.

من أبرز الأمثلة على ذلك – بحسب الوحيشي – أن قانون الأحوال الشخصية في ليبيا، وتحديدًا فيما يتعلق بالنفقة، رغم التعديلات التي أُجريت على القانون عام 2015، إلا أنها لم تكن كافية للتعامل مع التعقيدات اليومية المتعلقة بحقوق المرأة والأطفال بعد الطلاق، مما يفتح الباب أمام مطالبات ملحة لتحديث هذه التشريعات بما يتماشى مع الظروف الاقتصادية والاجتماعية الحالية.

وقال: لقد حث القرآن الكريم على ذلك حيث يضع قاعدة واضحة: “فلينفق ذو سعة من سعته ومن قُدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله، لكن، بين النص المثالي والواقع العملي، النفقة تتحول إلى معركة شاقة داخل المحاكم، ففي الحياة الزوجية، يكون الزوج مسؤولًا عن تلبية جميع الاحتياجات المالية للأسرة، وأحيانًا يبالغ في الإنفاق لإظهار قدرته، لكن بعد الطلاق، قد ينقلب الموقف، الزوج الذي كان مُعيلًا يصبح منكرًا لقدراته المالية، مستغلًا الثغرات القانونية لإظهار دخل منخفض لا يكفي حتى لتلبية الاحتياجات الأساسية”.

وفي معرض حديثه أشار الوحيشي أن المرأة تجد نفسها مطالبة بإثبات الدخل الحقيقي للزوج عبر الشهود أو تقديم أدلة على أنشطته الإضافية، مثل العمل بسيارة أجرة أو الشراكة في مشاريع صغيرة، وفي ظل غياب آليات دقيقة للتحقق، تصبح المحاكم مضطرة للحكم بناءً على المستندات المقدمة، وهو ما يؤدي إلى صدور أحكام نفقة غير عادلة، قد لا تتجاوز 500 دينار شهريًا في بعض الحالات، وهو مبلغ لا يكفي لتغطية احتياجات الأطفال الأساسية وسط ارتفاع تكاليف المعيشة.

التحايل على القانون

يرى وكيل النيابة نوري الوحيشي، أن التحايل القانوني يُعد من أبرز العقبات في قضايا النفقة، إذ يلجأ بعض الأزواج إلى تقديم إفادات تُظهر دخلًا متواضعًا، خاصة إذا كانوا موظفين في درجات وظيفية صغيرة، هذا الأمر يُجبر الزوجة على السعي لإثبات عكس ذلك، مما يطيل أمد القضايا ويُثقل كاهلها بمزيد من الأعباء المالية والنفسية.

وأضاف: أن التحايل لا يتوقف هنا، بل يستغل بعض الأزواج غياب العقوبات الرادعة، حيث يتراكم عليهم ديون النفقة لسنوات دون تداعيات حقيقية، وبعد فترة، يعود الزوج إلى المحكمة ليطلب تقسيط المبلغ المتراكم عليه بمبالغ زهيدة، مما يزيد من معاناة الأسرة، خاصة عندما يتعمد التأخير أو الامتناع عن السداد مرة أخرى.

واعتبر أن القضاة، الذين يتعاملون يوميًا مع عشرات القضايا، يحاولون تحقيق توازن بين مصالح الأطفال والزوجة والزوج. لكن غياب نظام موحد لتقييم الظروف الاقتصادية والاجتماعية يجعل الأحكام متفاوتة. ففي القضية الواحدة، قد يصدر حكم بنفقة ألف دينار، بينما في قضية مشابهة قد تكون النفقة 500 دينار فقط، اعتمادًا على اجتهاد القاضي والمستندات المتوفرة.

وأوضح أن القضية ليست فقط تعديل نصوص قانونية، بل تتطلب نظامًا متكاملًا يمنع التلاعب ويضمن العدالة. الحلول تبدأ بفرض عقوبات صارمة على الممتنعين عن الدفع، واعتماد نظام إلكتروني شفاف لتتبع دخل الأزواج ومصاريفهم. بالإضافة إلى ذلك، يجب تحديث القوانين بما يتماشى مع تغيرات الاقتصاد وتكاليف المعيشة المتصاعدة.

لكن في النهاية، تظل النفقة أكثر من مجرد بند قانوني؛ فهي مسؤولية أخلاقية واجتماعية تهدف إلى حماية الأبناء وضمان حياة كريمة للمرأة بعد الطلاق،

وكما قال “مهما تطورت التشريعات، فإن المشكلة الأساسية تبقى ثقافية؛ فإدراك النفقة كواجب أخلاقي قبل أن تكون مادية هو المفتاح لحل الأزمة.”

نصوص قانونية

وفقًا لقانون الأحوال الشخصية الليبي رقم (10) لسنة 1984 وتعديلاته، تم تنظيم النفقة بموجب نصوص قانونية تحدد قواعد واضحة وصريحة تشمل على تعريف النفقة في المادة (22).

النفقة تشمل الاحتياجات الأساسية مثل، السكن، الطعام، الكسوة، والعلاج، وتُحدد النفقة بناءً على حالة المنفق وقدرته المادية، وتغطي احتياجات الزوجة والأبناء حسب الوضع المعيشي.

وأكد القانون على إلزامية النفقة في المادة (23)، حيث تبدأ نفقة الزوجة من تاريخ العقد الصحيح، كما تم تحديد قيمتها وفقًا لحالة الزوج المادية وحاجة الزوجة، وتستمر في حالة الطلاق خلال فترة العدة، حيث يلتزم الزوج بالنفقة الشرعية.

وفي مرونة تعديل النفقة نصت المادة (24) بأنه يجوز طلب زيادة أو تخفيض النفقة وفقًا للظروف الاقتصادية والاجتماعية، والقاضي يحدد النفقة بناءً على تقدير الحالة المادية للمنفق وظروف المنفَق عليه.

وفي عقوبات الامتناع عن دفع النفقة فإن المادة (331) من قانون العقوبات أوضحت إن الامتناع عن دفع النفقة يُعتبر جريمة جنائية، فيها العديد من العقوبات تشمل الحبس لمدة تصل إلى سنة، والغرامة، أو كليهما، كما يمكن للمحكمة إصدار أوامر بالحجز على ممتلكات المنفق أو راتبه، وفي حالات مستمرة من الامتناع، قد تُفرض عقوبات إضافية لتحفيز المنفق على الدفع، مثل السجن لمدة تتراوح بين 10 إلى 20 يومًا.

ولكن تظل هناك عدة تحديات في تطبيق القانون، منها بعض أحكام النفقة التي تصدر دون دراسة دقيقة للوضع المالي للمنفق، بالإضافة إلى تغير الظروف الاقتصادية، مثل ارتفاع تكاليف المعيشة، قد يتطلب مراجعات دورية لقيم النفقة، كما أن تراكم القضايا المتعلقة بالنفقة يُثقل كاهل المحاكم، خاصةً مع وجود اعتراضات متكررة.

تنص المادة (26) إذا تنازع الزوجان في النفقة ولا بينة لأحدهما، وكان الزوج حاضرًا والزوجة تسكن معه فالقول قوله بيمينه، أما إذا كانت لا تسكن معه فالقول قولها بيمينها، فإن كان الزوج غائباً فالقول قوله بيمينه ما لم تكن قد رفعت دعواها بعدم الإنفاق أثناء غيبته فالقول قولها بيمينها.

للاطلاع على القانون رقم 10 لسنة 1984 بشأن الأحكام الخاصة بالزواج والطلاق وآثارهما أضغط هنا

بينما تنص المادة (27) على أنه يجوز للمحكمة أن تفرض نفقة مؤقتة لمن يستحقها شرعًا بناء على طلبه وذلك متى بان لها من مظاهر الحال أو من التحريات رجحان توافر شروط استحقاق النفقة وتقصير من تجب عليه في القيام بالإنفاق، ويصدر الأمر من المحكمة التي يقع في دائرة اختصاصها موطن مستحق لنفقة أو من تجب عليه ويكون الأمر الصادر بفرض النفقة مشمولا بالنفاذ المعجل.

 

تم إنتاج هذه المادة الصحفية بدعم من صحفيون من أجل حقوق الإنسان JHR

 

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى