أحلام بلا ألوان

حكاية المكفوفين في ليبيا بين التحديات والإهمال

تحقيق: جميلة بن عيسى *

* أستاذة جامعية ومدققة بيانات 

في زاوية منسية من مجتمع مزدحم بالتحديات، تروي ملاك حميدة قصتها المليئة بالصبر والنضال، ملاك السيدة الليبية التي فقدت بصرها، لم تفقد بصيرتها، ورؤيتها للحياة، وحقوقها التي أبت إلا أن تطالب بها، ليس فقط لنفسها، بل لشريحة ذوي الإعاقة البصرية بأكملها.

تبدأ ملاك حديثها مستحضرة معاناة مجتمع المكفوفين في ليبيا: “نحن شريحة محرومة من أبسط حقوقنا، لا تأمين صحي، لا بنية تحتية مهيأة، ولا اهتمام من الدولة بمعاناتنا اليومية.”

تغوص في تفاصيل حياتها، وهي متزوجة لكن حُرمت من حلم الأمومة، تقول بحزن عميق: “المرض والتكاليف الباهظة حرمتني من العلاج، وغياب التأمين الصحي جعل استمراري في متابعة العلاج مستحيلاً، لا أملك المال الكافي للسفر، أو تلقي الرعاية المناسبة، وكل ذلك كان كفيلاً بإيقاف حلمي في أن أكون أمًا”.

قانون العصا البيضاء ما زال حبرًا على ورق

تأخذ ملاك نفسًا عميقًا وتتابع حديثها: “في فصل الشتاء، نصبح سجناء داخل منازلنا الطرقات غير مهيأة، ولا نستطيع السير بسبب الحفر والمطبات. البنية التحتية كارثية، وقانون العصا البيضاء ما زال حبرًا على ورق.”

تتحدث عن حوادث مأساوية تعرض لها زملاؤها المكفوفون: “كم منّا فقد حياته بسبب الاصطدام بالسيارات أو السقوط في الشوارع، أصبح البعض يحمل ثلاث أو أربع إعاقات بدلاً من واحدة، كفيف ومشلول، أو كفيف ومبتور الأطراف، هل هذا عدل؟”.

أحلام مهددة 

ورغم كل ذلك، كانت لدى ملاك حلم بسيط وهي أن تكون “الطاهية الكفيفة”، برنامجًا تطمح من خلاله إلى إثبات أن المرأة الكفيفة قادرة على الطهي والإبداع كغيرها. تقول: “هذا المشروع هو طريقتي لأقول إننا نستطيع أن نعيش بكرامة، ولكننا بحاجة إلى دعم الدولة وإطلاق مشاريع صغيرة تساعدنا على العيش دون أن نمد أيدينا لأحد.”

مستقبل مجهول 

بمرارة تتحدث عن التعليم، فتقول: “طلابنا المكفوفين يعيشون الجهل لأنهم لا يجدون كتبًا خاصة بهم. كم من كفيفة لم تتمكن من إكمال تعليمها وأصبحت اليوم أرملة، أو مطلقة تعيل أطفالها دون فرصة للعمل، المؤسسات الأهلية تقوم بدورها، لكن التعليم الحقيقي لا بد أن يكون من الدولة.”

وأضافت “إلى متى نُعامل وكأننا غير موجودين، نحن جزء من هذا المجتمع، نحتاج مدارس خاصة، بنية تحتية، وتأمينًا صحيًا، المعاق ليس وسيلة للوصول إلى أهدافهم، نحن بشر لنا حقوق يجب أن تُحترم.”

طالبت ملاك بتفعيل القانون رقم (5) الخاص بالأشخاص ذوي الإعاقة، وتقول بأسى: “هذا القانون ما يزال مجرد أوراق في أدراج مكاتب المسؤولين، المعاقون يشترون العصا البيضاء بأموالهم الخاصة، ووسائل التعليم الحديثة مثل ‘برايل سينس’ لم تدخل ليبيا بعد، نحتاج دعمًا حقيقيًا يعيد لنا كرامتنا.”

ورغم كل الألم، تبتسم ملاك وتقول: “أنا موظفة مدربة حياة أعمل منذ عام 2001 في الهيئة العامة للمعارض، وأقدم برنامج ‘الكفيفة والحياة’ عبر راديو وتلفزيون التضامن، هذا صوتي الذي أريد من خلاله أن أصل إلى كل مسؤول. أقول لهم: نحن نعيش المعاناة كل يوم، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء.”

جمعت ملاك، بين الألم والأمل، لا تزال تقاوم الظلم والتهميش، وتطالب بحياة كريمة لجميع المكفوفين، لتظل صوتًا قويًا لشريحتها في مواجهة الصمت والتجاهل.

وفي قصة أخرى لمعاناة المكفوفين قصة نجاح من مدينة صرمان إلى كازاخستان: هي قصة أنس زقلم وبطولة الإرادة

في مدينة صرمان غرب العاصمة طرابلس، ولد أنس زقلم، شاب كفيف تحدى الظلام ليصبح شعلة من الإرادة والإصرار، وحقق ما عجز عنه الكثير من المبصرين، قصة أنس ليست مجرد قصة نجاح رياضي، بل هي حكاية ملهمة عن المثابرة والطموح رغم العقبات.

كانت البداية العفوية بشغف غير مخطط لم يكن أنس يخطط لأن يصبح بطلًا عالميًا في رياضة القوة البدنية، يقول أنس: “إن شغفه بهذه الرياضة جاء بعفوية، إلى أن لاحظ مدربه الأول، كمال قرفة، موهبته المميزة”.

شارك أنس في أولى بطولاته، بطولة أطلس ليبيا للأسوياء، حيث حصد المركز الأول ومن هناك، بدأت رحلته في عالم المسابقات المحلية، لكنه لم يتوقف عند حدود النجاح الأول، بل استمر بالتقدم بفضل دعمه الذاتي وإرادته الحديدية.

إصرار وتحدي

الانتقال نحو العالمية كانت نقطة التحول الكبرى حيث جاءت مع انتقال أنس إلى العمل مع مدربه الجديد، محمد الكعامي، الذي ساعده على صقل مهاراته ودفعه نحو العالمية، بدأ أنس بخوض بطولات محلية مثل بطولة المنطقة الغربية، وبطولة ليبيا، حيث حقق المركز الأول باستمرار، وفي أكتوبر 2024، كان الموعد مع التحدي الأكبر: بطولة العالم للقوة البدنية للمكفوفين في كازاخستان.

في هذه البطولة، تفوق أنس على منافسين من 22 دولة من بين الأكثر تقدمًا في هذا النوع من الرياضة، ليحصد الميدالية الذهبية في وزن 90 كجم، يقول أنس بفخر: “تحقيقي للميدالية كان بفضل الله، رغم قلة الإمكانيات مقارنة بما تملكه الدول الأخرى، والإرادة كانت سلاحي.”

صعوبات في طريق المجد، ولكن طريق أنس إلى الذهبية لم يكن مفروشًا بالورود، حيث يروي أنس كيف واجه تحديات مالية كبيرة، حيث تكفلت “جمعية النور للمكفوفين”، وهي جمعية أهلية، بتغطية الجزء الأكبر من تكاليف مشاركته، أما الدعم الرسمي، فقد اقتصر على تذاكر السفر والإقامة التي جاءت متأخرة من وزارة الرياضة.

كما تعرض أنس لإصابة جسدية أثناء تحضيراته، ولم يتلق أي دعم طبي من الجهات المعنية، مما اضطره لتحمل نفقات العلاج بنفسه، ورغم كل ذلك، لم يثنِه شيء عن مواصلة حلمه، حتى عندما لم يحصل على أي تكريم رسمي من الدولة الليبية بعد تحقيقه لذهبية.

في نهاية رحلته، وجه أنس رسالة قوية للجهات المعنية في ليبيا، قائلًا: “نحن الرياضيون نحارب بأقل الإمكانيات، وننافس دولًا متقدمة في هذا المجال، نحتاج إلى معسكرات تدريبية ودعم حقيقي للوصول إلى مراتب أعلى، ليبيا مليئة بالمواهب، لكنها تحتاج إلى من يساندها.”

خطوات نحو المستقبل يستعد أنس للمشاركة في بطولة ليبيا للقوة البدنية، ومنها يأمل أن يخوض التصفيات المؤهلة للبطولة الإفريقية، التي قد تستضيفها ليبيا، حلمه ليس فقط تحقيق أرقام قياسية جديدة، بل أيضًا تمهيد الطريق لجيل جديد من الرياضيين الذين يحلمون بالوصول إلى العالمية.

أنس زقلم، من صرمان إلى كازاخستان، قصة بطولة تتحدث عن نفسها، عن شاب كفيف أثبت أن النجاح لا يعتمد على الحواس، بل على الإيمان والإصرار.

حق شرعي

تروي الناشطة المدنية والحقوقية نجاة مسعود خميس بعضًا من معاناة الأشخاص ذوي الإعاقة، مشيرة إلى عدم تطبيق قانون ذوي الإعاقة، في الكثير من الأماكن من المدن الليبية، وتقول بأن أغلب الأماكن في المدن غير ميسرة لخدمة الأشخاص ذوي الإعاقة، ولا يوجد فيها أي مكان مخصص لهم، كما تشير إلى عدم وجود ما يعرف باليد التي من المفترض أن تكون موجودة على كافة الجدران في الأماكن العامة والخاصة ليتحسس من خلالها الكفيف طريقة للوصول إلى المكان الذي يرغب في الذهاب إليه كما، تفتقد المدينة أيضًا للعديد من الأشياء الأخرى الخاصة بهم.

الأستاذة نجاة مسعود

وأشارت إلى أن هناك من لهم صفة، أو مكانة في المراكز السيادية في الدولة الليبية لم يولوا أي اهتمام يذكر بموضوع المكفوفين وذوي الإعاقة بشكل عام، إلا من رحم ربي منهم.

وقالت لم تنال المرأة الكفيفة حقها من الدولة الليبية، ولكن هناك البعض من نشطاء المجتمع المدني مثل منظمة ليبيا للتنمية الثقافية وجمعية العصا البيضاء، وبعض رجال الأعمال، لديهم نوع من الاهتمام بالمرأة الكفيفة وبحقوقها، وأضافت “لا يوجد ذلك الاهتمام المرجو والذي من المفترض أن يكون لهذه الفئة والذي يجعلنا نقول إننا سنواجه به أو نمثل به ليبيا في المحافل الدولية”.

وأشارت إلى عدم تطبيق القانون رقم (5) الخاص بذوي الإعاقة في ليبيا أن القانون لم ينال حقه من التطبيق وترى بأنه لا يزال يحتاج لتفعيل والعمل عليه بشكل أكبر، وأكدت بأن السبب في عدم تفعيله والعمل به بالشكل الأمثل، يرجع لسوء الإدارة في بعض الأماكن التي من المفترض أن يطبق فيها القانون وليس لعدم وجود كفاءات.

وطالبت الحقوقية الليبية وزارة الدولة لشؤون المرأة ووزارة الشباب ووزارة الرياضة أن تكثف الجهود من أجل الوقوف إلى جانب هذه الشريحة وهي شريحة المكفوفين.

نظرة المجتمع

فيما يخص نظرة المجتمع وتقبله للأشخاص ذوي الإعاقة البصرية، أكدت الأكاديمية حميدة أبوحمادي، أستاذة الخدمة الاجتماعية بكلية الآداب واللغات بجامعة طرابلس، أن المجتمع بشكل عام يتبنى نظرة تقبل تجاه هذه الفئة، حيث يحيطهم بالدعم ويساعدهم في التكيف الاجتماعي، مما يساهم في اكتشاف قدراتهم وتحديد أهدافهم والعمل على تحقيقها.

وأشارت إلى أن الوعي بحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة البصرية أسفر عن تأسيس جمعيات أهلية متخصصة تهتم بهذه الفئة، مثل جمعية النور للمكفوفين في طرابلس وبنغازي، مما ساعد على تعزيز الاتجاهات الإيجابية تجاههم.

وأوضحت أن الدعم الاجتماعي والنفسي من المجتمع يلعب دورًا مهمًا في دمج الأشخاص ذوي الإعاقة البصرية وتقليل العزل الاجتماعي، من خلال تقديم التوجيه والمشورة، مما يسهم في تطوير مهاراتهم ومساعدتهم في مواجهة التحديات اليومية وتحقيق طموحاتهم.

الأستاذة حميدة أبو حمادي

كما أكدت أبوحمادي أن الاتفاقية الدولية لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، التي وقعت عليها ليبيا، كانت واضحة في موادها، وخاصة المواد 24 و25 و26 و27 التي تناولت حقهم في التعليم والصحة والعمل والتأهيل والعيش الكريم داخل المجتمع.

وأضافت أن نظرة المجتمع الليبي لم تتغير، حيث يثبت نجاح العديد من الأشخاص ذوي الإعاقة البصرية في مجالات الحياة العملية والعلمية وتحديهم للإعاقة، مشيرة إلى عدد من الطلاب المتفوقين من ذوي الإعاقة البصرية الذين التحقوا بالدراسة في جامعة طرابلس، واعتبرت بأن نظرة المجتمع الليبي تجاه الأشخاص ذوي الإعاقة البصرية لا تزال إيجابية.

اهتمام محدود

من جانبها قالت مروة مفتاح مدير مكتب الأشخاص ذوي الإعاقة ببلدية طرابلس المركز.

لا تقدم البلديات أي خدمات تقدم لفئة الأشخاص ذوي الإعاقة وخاصة فئة المكفوفين منهم، وعللت ذلك بسبب نقص الإمكانيات، وبعدم إلمام بعض مدراء المكاتب بمجال ذوي الإعاقة، وأشارت إلى أن أغلب مدراء المكاتب في البلديات من ذوي الإعاقة وهؤلاء لديهم المعرفة بكيفية تقديم الخدمات، ولكن لا توجد لديهم مكاتب يمارسون من خلالها مهامها وتقديم خدماتها للمحتاجين.

أما عن تبعية مكاتب ذوي الإعاقة في البلديات أكدت بأن تبعية هذه المكاتب لوزارة الحكم المحلي، وتحديداً لإدارة التنمية المجتمعية التي تعتبر المسؤول الأول عن هذه المكاتب، وقالت عن تبعيتها له بأنهم يطالبون أي مدراء مكاتب ذوي الإعاقة بالبلديات بأن تكون لديهم إدارة خاصة بذوي الإعاقة داخل وزارة الحكم المحلي مستقلة عن إدارة التنمية المجتمعية.

وأوضحت بأن نوع العمل المناط بهم مع ذوي الإعاقة هو عمل خدمي يعني تقديم خدمات، مثل تهيئة الأماكن كمواقف السيارات وتهيئة الحدائق والطرق، وليس لهم علاقة بتقديم المساعدات والإعانات فهذا الأمر يختص به صندوق التضامن الاجتماعي.

الأستاذة مروة مفتاح مدير مكتب الأشخاص ذوي الإعاقة ببلدية طرابلس المركز

وقالت نحتاج إلى وجود التصميم الشامل للمدن، على الرغم من أن هناك بناء وتعمير، ولكن لا يوجد تصميم يراعي فئة الأشخاص ذوي الإعاقة البصرية، ولا يتم أخذها في الحسبان، وقالت “لا توجد أي مراعاة لحقوقهم، والتي من بينها عدم وجود الكتب الخاصة بلغة (برايل) للطلبة في الجامعات.

وأشارت إلى أن هناك طالبة تجمعها بها معرفة شخصية أوقفت قيدها في كلية القانون بسبب عدم حصولها على الكتب، وأضافت بأنها لا توجد توعية داخل المدارس الجامعات بكيفية التعامل مع الأشخاص ذوي الإعاقة البصرية بصورة خاصة، وغير ملمين بكيفية التعامل معهم.

وأكدت بعدم وجود أي دمج للمكفوفين داخل المدارس العامة والخاصة داخل بلدية طرابلس المركز، في حين أن هناك دمج لبعض الإعاقات الأخرى، وقالت مفتاح أن السبب قد يعود نتيجة لقلة التوعية وقلة الإمكانيات، وعدم وجود الية لكيفية الدخول والخروج من الأبواب بالنسبة للمكفوفين.

وأشارت إلى أن حقوق المكفوفين مهضومة، فقد تم وضعهم في جمعية النور للمكفوفين التي تعتبر المكان الوحيد الذي يتلقون فيه تعليمهم، والمتكفل بكل امورهم، وأكدت بشكل قاطع بأنه لا توجد أي مدرسة أخرى خاصة بهم.

وبالسؤال عن مدى تطبيق القانون رقم (5) قالت بأن القانون غير مفعل إلى الآن، وأكدت أنه تم خلال المدة الماضية وخلال أحد المؤتمرات، اتفاق قد تم بين وزارة العمل والتأهيل ووزارة التعليم ووزارة الحكم المحلي وتم توقيع اتفاقية تهدف لتفعيل قانون رقم (5)، والذي بدأ تفعيله فعلياً داخل وزارة الحكم المحلي في الجزئية المتعلقة بتعيين ما نسبته 5% من الموظفين من ذوي الإعاقة، أما البنود الأخرى لم يتم تفعيلها.

وقالت قام “صندوق التضامن ومن خلال وزارة الشؤون الاجتماعية قام بتقديم منحة مالية للطلبة فقط من فئة المكفوفين دون سواهم، أما باقي الوزارات لم تقم بأي دور يذكر، والشي الوحيد الملحوظ هو الدمج في حضور المحافل والمناشط والمعارض داخل البلديات فقط.

وطالبت بضرورة الاهتمام بهذه الفئة ومراعاتها والنظر لحقوق أصحابها لأنها فئة مهمشة حسب قولها، وشددت على ضرورة أن يكون لهم وجود ومكان سواء في المدارس أو الجامعات، وأن يكون لهم الحق في الحصول على تعيينات في الجهات الحكومية.

تم إنتاج هذه المادة الصحفية بدعم من صحفيون من أجل حقوق الإنسان JHR

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى