بقلم جلال عثمان
في العام 2008 أبلغني الصديق والزميل المخرج إبراهيم الحاجي، عن رغبة قناة الحرة الأمريكية، في التعاقد مع مراسل لتغطية أحداث ليبيا، وهي القناة التي ينظر لها كذراع إعلامي لوزارة الدفاع الأمريكية، (بنتاغون) والتي تحظى بقدر كبير من الكراهية لدى المؤسسات الرسمية الليبية، عكس المكانة التي كانت تحظى بها قناة الجزيرة آنذاك. كان يُنظر للحرة، كمؤسسة استخباراتية هدفها إثارة الفتنة وتهويل الأمور وضرب استقرار ليبيا، لذا لم يسمح للقناة بالعمل في الجماهيرية، إلا بعد أن أجرت القناة لقاءً مع القذافي في العام 2006 تقريبًا، وانتزعت موافقته للعمل في ليبيا.
كانت لي تجربة في العمل كمراسل من خلال عملي في العام 2003 مراسلاً لتلفزيون دولة الكويت، كونت خلالها تجربة عملية أفادتني كثيرًا فيما بعد، وانقطعت علاقتي بالقناة بعد دخول عدد من المتظاهرين للسفارة الكويتية في طرابلس، وتمزيق العلم وإبداله بعلم العراق في 25 مارس 2003، وقد أبلغني السيد جمعة بلخير أمين هيئة الإعلام الخارجي آنذاك بضرورة قطع العلاقة بالقناة، بحجة أنها شتمت القائد، وفي جماهيرية القذافي كانت هيئة الإعلام الخارجي وأمينها أكثر من مجرد حلقة وصل بين وسائل الإعلام الخارجية والدولة الليبية، فالهيئة تمارس صلاحيات أكثر من ذلك تمتد إلى إجبار المراسلين على تغطية أحداث معينة خصوصاً تلك الخاصة بالزعيم، تحت طائلة التهديد، وقد حدث أن هدد عبد المجيد الدرسي، الذي تولى إدارة الإعلام الخارجي خلفاً لبلخير، بإلغاء اعتماد كل مراسل يتغيب عن نشاطات القائد، وقد حدث هذا معي ومع مراسل رويترز صالح سرار، وخالد الديب مراسل الجزيرة، وهو ما ساهم في نهاية الأمر في تركي العمل كمراسل للحرة، حيث رفضت في 2010 تغطية عدة لقاءات لأن القناة لا ترغب في ذلك، لعدم وجود ما يستحق التغطية في مثل هذه اللقاءات، فمنعت بطريقة أو بأخرى من حضور المؤتمرات، وتغطية ما يستحق منها.
كان سبب عدم التحمس للعمل مع قناة تعتبر الرقم 3 بعد الجزيرة والعربية، في الإعلام الفضائي العربي، كون القناة لا تحظى بقبول عربي، وكونها تأسست لتصحيح صورة الولايات المتحدة الأمريكية إبان احتلالها للعراق، وكونها فشلت في مشروعها الرامي لمنافسة الجزيرة، وأخيرًا وهو الأهم كونها لا تحظى بأدنى قبول على مستوى المؤسسات الرسمية الليبية، وهو ما عانيت كثيراً منه لاحقاً، فكلما طلبت أخذ تصريح قصير من مسؤول للتعليق على موضوع ما أخبرك أنه مسافر، وهو ما تكرر مثلاً مع يوسف صوان، و صالح عبدالسلام، أو قد يهرب المسؤول من أمامك، بمجرد أن تذكر له أنك مراسل الحرة، وهذا ما حدث مع محمد الأزهري، رئيس تجمع (س ص) في قمة صبراتة، فالرجل هم بالإجابة على سؤالي، ولكنه لم ينتبه لشعار القناة على لاقط الصوت، وتدارك حين سألني: تتبعون أي قناة ؟ .. فقلت له: الحرة.
وإذا بالرجل يطلق ساقيه للريح، مردداً: الحرة .. الحرة .. لم أملك أنا والزميل صالح سرار إلا الضحك، فشر البلية ما يضحك حقًا.
العمل مع الحرة لم يكن سهلاً أبدًا، وأذكر حين نسقت للقاء بالسيد إدريس المسماري – رحمه الله – في برنامج عين على الديمقراطية، للمشاركة في حلقة تفتح ملف الدستور، حينها تلقيت مكالمات هاتفية من أغلب المسؤولين على الإعلام في ليبيا، وعلى رأسهم عبدالله منصور – فك الله أسره – ونوري الحميدي أمين المؤسسة العامة للثقافة – شفاه الله – وعلي عطية – الأمين المساعد للهيئة العامة لإذاعات الجماهيرية – كان مساءً كئيبًا بامتياز، فالحلقة سجلت الأربعاء، لتذاع السبت، ويبدو أن القائد قد شاهد المقاطع الدعائية للحلقة، إذ تم قبل ذلك تسريب مسودة قيل أنها لدستور ليبيا الجديد، ثم تبرأ رئيس مؤسسة القذافي من الموضوع، بعد أن ورط غيره، ولمشاركة إدريس المسماري في البرنامج قصة أخرى، إذ أن لمعرفتي بوجود تعليمات مشددة بعدم تناول موضوع الدستور، طلبت من السيد علي عطية منح تصريح دخول للسيد إدريس المسماري لمقر الإذاعة، على اعتبار أن المشاركة ستبث من استوديوات (الجماهيرية) وأخبرته أن الضيف سيتحدث عن المؤتمرات الشعبية، فالجهر بموضوع الحلقة يعني وأدها.. وعادة ما كنت أتعامل بأساليب مشابهة أثناء عملي مراسلاً للقناة، ولولا ذلك لما كان بالإمكان انجاز تقرير واحد، وجاء موعد الحلقة، وجاء الضيف، ولكن علي عطية رفض الموضوع جملة وتفصيلا على اعتبار أن إدريس المسماري أحد مساجين بوسليم، المعروفين بـ(جماعة أصبح الصبح) .. أخيرًا أحالني علي عطية للسيد جمعة بلخير، الذي رفض بدوره الفكرة من الأساس، واقترح علي استضافة صالح إبراهيم بديلاً للمسماري، وبعد جهد جهيد استطعت إقناع بلخير وتم اللقاء، ولكنه لم يمض ِ على خير إلا بعد بث الحلقة.
من التقارير التي انجزتها بصعوبة، ذلك التقرير الذي أعدته حول مهرجان التراث الأمازيغي بنالوت في العام 2008 حيث رافقنا رجال الأمن كظلنا، وكل نصف ساعة كانت تردنا إشارات بضرورة تسليم المادة قبل بثها لجهة أمنية، بالإضافة للضغوط التي تعرض لها بعض الذين حاورناهم، وأن لقناة الحرة أجندة مشبوهة وهي تهدف لزرع الفتنة بين العرب والأمازيغ، والتقرير موجود على موقع يوتيوب تحت اسم (مهرجان نالوت للتراث الأمازيغي) وكان زميلي وصديقي طارق الرويمض شاهدًا على ما حصل، حيث قام بتصوير التقرير.. أذكر أيضًا التغطية التي قمت بها لصالح قناة الحرة، حول سقوط طائرة الخطوط الجوية الأفريقية في مطار طرابلس، والتي كانت بتوفيق الله ورغم رفض الكثير من المسؤولين كالعادة التعامل مع الحرة، من أكثر التغطيات العربية والدولية قربًا للواقع واهتماماً بالتفاصيل، حيث قمت بإعداد تقرير يومي على مدى 4 أيام، ومداخلتين عبر الهاتف، مع مداخلة عبر الأقمار الصناعية، وفي حين اتجهت جل وسائل الإعلام للمسؤولين في قطاع الاتصالات ومصلحة الطيران، الذين تحدثوا بوجل، وعلى استحياء، اتجهنا إلى شخصيات مستقلة ذات علاقة مباشرة بمجال الطيران، ومنهم من يملك شركة خاصة مثل مدير شركة تيبستي السيد محمد مختار بوسيف – رحمه الله – وما أعلنه تقرير الحادثة بعد أشهر تكهن به ضيوفنا بعد يومين من سقوط الطائرة.
أحد هذه التقارير صوره لي الزميل الصحفي والمخرج عبد الله والوافي، وحضر معي أصعب ربع ساعة بعد انجاز رابع تقرير، فقد جرت العادة أن أقوم وحدي بعملية المونتاج، ومن ثم الإرسال عبر بروتوكول FTP (عن طريق الانترنت) ولكن لسوء سرعة التحميل عبر الواي ماكس، إذ يستغرق إرسال تقرير من 3 دقائق أكثر من 120 دقيقة، فقد لجأت مكرهاً لقسم الإرسال في هيئة الإذاعة، وبمجرد وصولي والزميل الوافي وجدنا رسالة، واردة من مدير الإذاعة تمنع إرسال أي تقرير حول الطائرة، وبعد محاولات مع فني الإرسال اقترح علي الاتصال بالسيد علي عطية، فكان ما طلب، وكان المتحدث في الجهة الأخرى عبد العزيز موسى القذافي، مدير إذاعة سرت المحلية السابق، وأحد النافذين في هيئة الإذاعة حينها، كان موسى أكثر تفهماً من أي شخص كنت أتوقع رده، ووافق على بث التقرير ولكن شريطة ألا يتناول تصريحات أي مسؤول ليبي، ولأن التقرير كان على قدر كبير من الخطورة، وتناول بالشواهد تورط قطاع الاتصالات، ومصلحة الطيران في القضية، من ناحية الإهمال الجسيم، فقد كان من الواجب بث التقرير دون أن يطلع عليه فني الإرسال، فكلما عمد إلى عرض التقرير بادرته أنا بفتح موضوع مثير، فيمضي التقرير دون أن يركز على أي شيء، فيعيده من جديد، فأبادره أنا بموضوع أكثر تشويقًا، فيمضي التقرير دون أدنى تركيز، إلى أن حل موعد البث فوجد نفسه مضطراً لإرساله، ولكن المفاجأة كانت كبيرة عندما شاهد التقرير أثناء الإرسال، وامتقع وجه الرجل، ولكن التقرير كان قد عبر البحر الأبيض إلى أوروبا ومنها لولاية فرجينيا حيث استوديوهات الحرة.
في أواخر العام 2008 حضرت مناورة بين الجيشين الليبي والجزائري، في منطقة بئر دوفان، منعت بعد ذلك من إرسالها بحجة أنها لم تعرض بعد في الفضائية الليبية، وباءت كل المحاولات بالفشل، وكان الزملاء في قسم الأخبار قد وضعوا التقرير ضمن خارطة النشرة، وأذكر أنني بقيت أكثر من 48 ساعة بلا أكل، حيث أصيب أكثر من 10 صحفيين بنزلة معوية أثناء المناورة لتسمم الطعام هناك، وقبل وصولي للبيت اتصل بي الزملاء من الحرة إذ تمكنوا من التنسيق مع قناة الليبية لبث التقرير من هناك، وفور تمكني من ذلك اتجهت إلى أقرب مصحة وهي مصحة الهلال الأحمر حيث بقيت هناك حتى الساعات الأولى من الفجر.
القصص مع الحرة كثيرة جداً، ولا يمكن حصرها في اتكاءة واحدة، لما فيها من ذكريات عصيبة، وممتعة أيضًا، وأذكر منها تغطيتي لقمة دول الساحل والصحراء، في جمهورية بنين، وقد ساعدني هناك إلمامي باللغة الفرنسية، فقد بدى شبه مستحيل إرسال أي تقرير من عين المكان، نظرًا لسوء خدمة الانترنت، ثم لعدم توفر شركات خاصة في مجال البث الفضائي، الأمر الذي أجبرني للتعامل مع بعثة التلفزيون الليبي، وهو ما لم يتحقق بسهولة، فقد أجبرت على تأجير سائق بدراجته النارية، لملاحقة سيارة البث، من قاعة المؤتمرات إلى الملعب البلدي، حيث من المبرمج أن يلقي القذافي كلمة هناك، وبدأت رحلة لمسافة لا تقل عن 20 كيلومتر على دراجة بالكاد كانت تحمل سائقها، وفي الملعب أبلغني فنيو الإرسال أن الشريط الذي أحمله لا يتوافق مع آلة الفيديو التي يستخدمونها.. فبدأ صراع جديد ولكن التقرير بفضل الله كان في موعده ضمن نشرة الأخبار.
القصص كثيرة، وغريبة قد لا يتسع المقام لحصرها الآن، ولكن إجمالاً العمل مع قناة الحرة في ليبيا القذافي، كان كالسير في حقل ألغام، وأتذكر دائمًا كلام صديقي مراسل الجزيرة خالد الديب، الذي كان يقول دائمًا (أنت رافع السلم بالعرض، رد بالك).
حفظ الله رفيق الرحلة خالد الديب، والتي لم تكن مهامه سهلة كما يعتقد البعض، خصوصًا الذي لم يطلعوا على كتابه، (القذافي والجزيرة وأنا).